دندنات حول مقاربة بروف ابراهيم القرشي لديوان حاج الماحي
محاضرة من اعداد وتقديم السفير /د. خالد محمد فرح
– صدر للبروفيسور ابراهيم القرشي استاذ اللغة العربية والادب العربي بالجامعات السودانية حالياً والسعودية سابقاً في بحر العام الماضي ٢٠٢١م ، كتاب عن ديوان المادح السوداني الشهير حاج الماحي بعنوان: حاج الماحي قيدومة المادحين: إبحارٌ في ديوانه. صدر الديوان عن شركة مطابع السودان للعملة المحدودة في ٣٥٥ صفحةً من القطع المتوسط ، وقدّم له ثلاثة أساتذة كبار ، من الاكاديميين المعروفين هم: بروفيسور علي أحمد بابكر ، وبروفيسور عمر شاع الدين ، وبروفيسور كمال محمد عبيد.
– وأود بدوري من خلال هذه الكلمة ، أن أدندن قليلاً حول قراءة البروف ابراهيم القرشي وإبحاره في ديوان حاج الماحي ، بما عنّ لي من تعليقات وتعقيبات وتقييدات دونتها على هوامش النسخة التي اقتنيتها واطلعت عليها بشغف واستمتاع شديدين ، فاجتمع لي من ذلك قدر صالحٌ ، رأيتُ أن أشرك حضرات المستمعين والقراء فيه ، وذلك لايماني العميق بالقيمة العالية لمستوى شعر حاج الماحي ، ومكانته السامقة في ديوان المديح النبوي الشعبي في السودان ، وما ينطوي عليه من ذخائر لغوية وتاريخية وفولكلورية وثقافية وجغرافية ومعرفية باذخة ، تمثل نموذجا رفيعاً للثقافة العربية الاسلامية في السودان خلال النصف الاول من القرن التاسع عشر الميلادي وما قبله بطبيعة الحال.
– لقد كانت لكاتب هذه السطور في الواقع ، تجربة سابقة مع مقاربة شعر الحاج الماحي محمد الشيخ المولود بقرية الكاسنجر بديار الشايقية بشمال السودان تخميناً في حوالي عام ١٧٩٠ ميلادية او قبلها ببضعة اعوام ، والمتوفى والمدفون بها يقينا في عام ١٨٧١م ، وذلك من خلال دراسة منشورة له باحدى الصحف السودانية في عام ١٩٩٩م ، بعنوان: ” حاج الماحي والشيخ عبد الرحيم البرعي: قطبا المديح النبوي التقليدي في السودان ” . وكان الكاتب قد استوحى ذلك المقال من مشاركة كلا مجموعتي اولاد حاج الماحي واولاد البرعي في الفعاليات الثقافية والفنية التي اقيمت على هامش معرض الآثار السودانية ” السودان ممالك على النيل ” ،
– الذي اقيم بمعرض العالم العربي بباريس في عام ١٩٩٧ ، وهو آنئذٍ دبلوماسي بسفارة السودان هناك.
– ولكن قراءة بروفيسور ود القرشي الماتعة ، وإبحاره الرائق في بحر حاج الماحي الخضم قد شجعني وأغراني حقاً ، بالتوقف معه للحظات عند جملة من المواضع والمسائل ، بالتعقيب والنقاش والمساءلة ، وايراد وجهات نظر أخرى ، توسيعاً لنطاق القراءة في هذا التراث النفيس ، وتعميماً للفائدة.
– في صفحة ١١من الكتاب ، يشير البروفيسور عمر شاع الدين في تقديمه لهذا الكتاب ، الى ما دعاها بالالفاظ( الكردفانية ) التي ترد في شعر حاج الماحي ، والتي وصفها المؤلف ابراهيم القرشي بانها الفاظ من صميم العربية مثل كلمة ” كيف ” كاداة تشبيه ، وكلمة ( الغلّة ) للطعام او الحبوب الغذائية ، وفتح أول المضارع.
– والواقع هو كما نراه ، ان حاج الماحي لم يستعر تلك الالفاظ من اللهجة الكردفانية ولا من غيرها ، بل اغترفها كفاحا من بحبوحة لهجة الشايقية الدارجة من غير تصنع ولا تعمل ، ولا تباصر او افتتان بالغريب عنها ، رغبة منه مثلا في اظهار التبحر وسعة المعرفة.
– والحق ان مما يلاحظ على لهجة الشايقية عموما ، صلتها الواشجة وشبهها الشديد بلهجات كردفان صوتياً ودلاليا في اشياء كثيرة لمسناها ربما لا يتسع المقام هاهنا لتفصيلها ، منها استخدام كيف المذكورة انفا كاداة تشبيه ، ومنها قول الناس مثلا في كردفان: ” فلان شاطر كيف الاسد ” اي شجاع مثل الاسد ، والشاهد من شعر حاج الماحي مثلا هو قوله في وصف النبي (ص): فمّو كيف دارة الختاما ، اي ان فمه حسن مستدير مثل دايرة الخاتم. فالراجح ان استخدام كيف كاداة تشبيه ، قد كان شائعا بين شتى المجموعات الناطقة بالعربية في السودان ، وليست وقفا على اللهجة الكردفانية. ذلك باننا نجدها على سبيل المثال في شعر المادح احمد ود تميم وهو جعلي عاليابي من سكان جنوب الجزيرة وذلك في قوله:
– يا مولاي سالتك مدحي ينزل كيف وبال الخريف مو رش بطين الصيف .. يعني مثل وبال الخريف
– ويبدو لسبب ما ان كيف كاداة تشبيه قد اختفت من لهجات الشمال والوسط ، واستمر استعمالها في كردفان حتى الان وإلى أن يقضي الله امرا كان مفعولا.
– والذي أراه وأشار اليه المؤلف أيضاً ، ان استخدام كاداة تشبيه لها اصل اندلسي قديم ، ولذلك يكثر انتشارها في عاميات بلاد المغرب الغربي دون بلاد المشرق ، والشاهد على وجودها واستخدامها في عربية الاندلس هو قول لسان الدين بن الخطيب في الموشحة الشهيرة ” زادك الغيثُ “:
– وروى النعمان عن ماء السما
– كيف يروي مالكٌ عن أنسِ
– أي كما يروي او مثل ما يروي مالك عن أنس.
واما الغلة بمعنى الحبوب الغذائية مثل الذرة الرفيعة والدخن ، او ما يسميه عامة السودانيين ” العيش ” ، فصحيح ان عرب البقارة والحمر بالتحديد في كردفان هم الذين يستخدمونها ، ولكنها مع ذلك تظل معروفة ومستعملة في سائر انحاء السودان ، ومن ذلك قولهم في اهزوجة الاطفال:
يا ايدي شيليني ختيني
في بيت الله المليان غلّة الخ
والغلة في الفصيح وجمعها غلال ، هي ثمار الحقل وحصاده ، وانما قصروا اطلاق الغلال على الحبوب الغذائية من قبيل المجاز فقط.
وأما فتح اول المضارع الذي لاحظه البروف شاع الدين في بعض الفاظ ديوان حاج الماحي ، فلا ينم البتة عن تاثر او تقليد للهجة كردفان ، وانما هو مذهب الشايقية الطبيعي في حديثهم ، بمعنى انه خصيصة اصيلة من خصائص لهجتهم على المستوى الصوتي ، يتشابهون فيها مع لهجات كردفان. ونعني بذلك التزام فتح اول المضارع بدلا عن الكسر كما في لهجات وسط وشمال السودان الاخرى. حيث يقول اهل كردفان وكذلك الشايقية مثلاً: فلان بَمشي وبَجي بفتح الباء كقاعدة مطردة ، بينما يقول سائر اهل الشمال والوسط: فلا بِمشي وبِجي بجر الباء. وذلك هو بالضبط الذي سوغ لحاج الماحي أن يقول:
أسد الله البَضرَع ينهر في المجمع
كم عوقاً في سراع من شوفتو اتفرزع .. وليس البِضرع بكسر الباء.
وشبيه بذلك قول الشيخ عبد الرحيم في قصيدته الحربية الايقاع ” الليل جنّ “
خبرو بَجيب البَسألنا
يا اللالوب .. الليل جنّا
ساري دخل غرف الجنّة
يا اللالوب !!
ومما تشترك فيه عربية كردفان مع لهجة الشايقية ايضا مما له صله بهذا الباب بالتحديد ، تحقيق ياء الفعل المضارع للغائب المفرد مع فتحها ، مثل قولهم: يَمشي ويَفوت ، ويَقع ، ولجميع ذلك شواهد من مديح حاج الماحي ، بينما ان من الملاحظ ان لهجات وسط السودان خاصة ، مثل الجزيرة والصعيد يحيلون ياء الفعل المضارع الى همزة مكسورة فيقولون: إمشي وإفوت و إقع على التوالي ، بل بعضهم من يلتزم بها حتى في الكتابة في وسائط التواصل الاجتماعي نفسها.
– في صفحة ٢٧ من الكتاب ، اورد المؤلف بيتين من مديح حاج الماحي يدلان دلالة واضحة على واحدة من ابرز الخصائص الصوتية في لهجة الشايقية. لا اقول تلك الامالة الشهيرة او كسر اواخر الكلم ،
– في مثل قول حاج الماحي:
– غفور لى عبدو إن رادلو السعادي
– يحسّن ظنو يختم بالشهادي
– فهذه الكسرة او الامالة ليست قاصرة عليهم وحدهم ، لأنها معهودة وشائعة بين الكبابيش والهواوير والجوامعة وغيرهم ممن يسمون باهل الدار بكردفان ، فجميع هؤلاء لا يقولون الا الكديسي والجدادي والحديدي بكسر الدال الاخيرة ، للكديسَة والجدادَة والحديدَة بفتحها على التوالي ، وانما نقصد قلب التاء الدالة على الفعل المضارع لجماعة المتكلمين نوناً في كل الاحوال او معظمها. والشاهد هو قول حاج الماحي:
– يوم الناس يقوموا حيارى
– من هول القيامة سكارى
– النار كالجبال شرارا
– في جاه الرسول ننضارى
– فقال ننضارى بالنون وليس نتضارى بالتاء التي عادة ما تدغم في الضاد فتنطق ضادا مشددة ، وهذا مذهب خاص بالشايقيةً ويوشك ان يكون قاصرا عليهم وحدهم. اذكر ان زميلا لنا من ابناء الشايقية بالجامعة ، كان يهيب بنا ونحن بالداخلية في البركس ، بأن نذهب الى السفرة ” ننغدّى ” هكذا ، وليس نتغدى كما يقول ساير اهل الوسط والشمال ، او نتغدو كما يقول اهل غرب السودان. وكنت انا خاصة استغرب من طريقته في نطق ذلك الفعل.
– وقد لاحظ المؤلف محقا في صفحة ١١١ أن من صور الابدال المشهور عند حاج الماحي ، وضع النون مكان التاء كما قالوا ( ما مندلي كريمي ) وأصله ( متدلي ) ، وردت عند شاعرنا فيما يُتعب حصره كقوله:
– جمالنا انسهّلت من وادي قوس
– و قوله: نمرق مع الخبير نندلّى في القصير
– بلى ، هنالك بعض الافعال التي يلتزم فيها الجميع هذه النون التي يستعملها الشايقية في كل الاحوال ، وذلك مثل الفعل ” انجمّ ينجم ” بمعنى استراح يستريح ، ذلك بان الكل يقولون ” ننجمّ ” وليس ” نتجمّ “. وعندي ان لهجة الحضر في السودان عموما ، تميل الى استخدام التاء في اول الفعل المضارع لجماعة المتكلمين ، بينما يميل اهل الارياف والبوادي الى التزام النون فيه في بعض الحالات. فاهل المدينة يقولون مثلا ” خلونا نتفكّ من المشكلة دي ” ، بينما يقول اهل الريف ” ننفك ” بالنون.
– في صفحة ٣١ من الكتاب ، يورد المؤلف بيتا من مديح حاج الماحي ، يوشك ان يكون في تقديرنا هو المصدر الذي استقى منه الشاعر الرائد خليل فرح عبارة ” جنة بلال ” التي استعملها في قصيدته الشهيرة ” عازة في هواك ” ، وهو قوله:
– عازة ما نسيت جنة بلال
– وملعب الشباب تحت التلال الخ
– والشاهد هو ان حاج الماحي الذي توفي قبل ان يولد خليل فرح بنحو ربع قرن قد قال:
– وقيع بالخوّة والوالدين وخال
– معاك سكّنا في جنّة بلال
– ولا بد ان الخليل قد استمع الى هذه المدحة والعبارة المعنية واستقرت في وجدانه منذ صغره ، فتناصّ معها لاحقا كما نعتقد.
– في صفحة ٨٣ ، يحاول المؤلف ان يشرح مادة لغوية سودانية صميمة وعريقة ، بيد انها غامضة الدلالة والاشتقاق ، وردت في شعر حاج الماحي ، الا وهي مادة ” هَجَى .. يَهَحى او يهَجا ” التي جاءت في مثل قوله:
– حلو اللسان يهجاك كلامو ويطربِ
– وقوله: من طعمو اللذيذ يهَجاني
– وقوله؛ ونكرف لى رياحو وعنبرو اليهجاك
– ولكننا نرى ان المؤلف قد قيد نفسه حين قسرها على الالتزام الحرفي بالمعنى الذي تعطيه معاجم اللغة الفصحى لكلمة ” الهَجا ” الذي يأتي فيها بمعنى ” الشِبع ” وحده ، بينما ان مادة : هجى / هجا والفعل يهجَى المشتق منها ياتي في العامية السودان ليفيد معنى السرور والاعجاب عموما ، ولعله توسع منها وميل للاستطراد والمجاز لان الشبع مفض الى السرور والارتياح والاعجاب لا محالة.
– وقد اورد العلامة عون الشريف في معرض شرحه لهذه المادة قولا يوكد ما ذهبنا اليه ، نسبه الى الشيخ فرح ولد تكتوك هو قوله: ” عليك بالعود الغليد .. ان ضربت يهجاك . وان كجرت يحجاك ” ، اي التزم حمل العود الغليظ في سيرك ، فانك ان ضربت به عدوك اعجبك اثره فيه ، وان نشرت فوقه كساءً ، وقاك وحماك من الحر او البرد. ( انظر مادة هجى ، عون الشريف ، قاموس اللهجة ، ط ١٩٨٥ ، ص ١١٧٨ ).
– وبذلك يكون معنى هجى يهجَى في العامية السودانية ، كما اكد البروفيسور عون الشريف هو سرّ يسرُ قولا واحدا. وتاسيسا عليه تكون معاني اسماء اعلام سودانية قُحّة مثل: هجو هو السرور ، والهجا بنفس المعنى ، وهجانا: سرنا واعجبنا ، وهجوة هي مسرّة او العاجبة على التوالي.
– أميل الى الاتفاق مع المولف في تقريره في صفحة ٩٤ بأن مفردة ” ألس ” بمعنى احد حبال الساقية ، وهي من الكلمات النوبية الاصل الكثيرة التي احتفى بها حاج الماحي غاية الاحتفاء واوردها باستفاضة في ديوانه ، هي مشتقة من اصل عربي صميم هو كلمة ” القَلَس ” وهو الحبل الغليظ من حبال السفينة بحسب ما يرد في مهاجم اللغة العربية كلسان العرب لابن منظور وغيره من المصادر.
– والشاهد هو قول حاج الماحي:
– توب واغتسل يا الفيك نَجَسْ
– في غفلة ينصبّ الألَسْ
– كناية عن ورود المنية وانقضاء الأجل.
– واعجبني استنتاج المؤلف اذ يقول شارحاً: ” قلتُ: ثم دخل هذا الحرف إلى المصريين ( اي كلمة قلس وهذه الزيادة من عندنا )، فحولوا القاف همزة كجاري عادتهم في كثير من مثل هذه الحروف: ( قلم = ألم ، قانون= آنون ) وغيرها. ” انتهى
– في صفحة ٩٦ رأيت المؤلف وهو يميل الى النظر الى استخدام حاج الماحي المفردة ” ترا / ترى ” ، وكانه تاثر منه او استطراف لمفردة خليجية كما قال ، بينما انها في الواقع مفردة سودانية اصيلة مئة بالمئة ، ومن محاسن الصدف انني كنت قد نشرت منذ بضعة اسابيع فقط على صفحتي بفيسبوك رسالة قصيرة بعنوان ” ترانا ماشين وبرضو ماشين ” استعرته من مقطع في اغنية شهيرة للمطرب ” مجذوب أونسة ” ، ابنت فيها اصالة هذه اللفظة وعراقة استخدامها في العامية السودانية.
– قالت شاعرة من الجعليين تمدح ابنها الصغير الذي كان نحيفاً ضئيل الحجم:
– ولدي فالح من نحينو
– والخصيم ان جا بيهينو
– يا كريم يا رب تعينو
– ترى الرهيف أسقالو دينو
– وكان حاج الماحي رحمه الله قد قال مستخدماً كلمة ” ترى “:
– حسارو في كبودنا كدّنا ترى المسار مو بيدّنا
– وقال أيضاً:
– ترى المقصود عسى ربي ان حياني
– أزور الغالي واصحابو الحُسانِ
– في صفحة ١٠٠ من هذا الكتاب ، يوقفنا المولف بروفيسور ود القرشي على اشتمال مديح حاج الماحي على شواهد على خصيصة صوتية مميزة كنا نحسبها من قبل وقفا على قبايل بعينها في كردفان ، هي قبايل وسط وشرق كردفان من جوامعة وبديرية وشويحات وجلابة هوارة الخ ، الا وهي خصيصة ادغام هاء ضمير النسبة في الحرف الذي قبلها مع تغيير طبيعة ذلك الحرف من حرف مجهور الى آخر مشابه له ولكنه اقل جهرا منه ، مثل قولهم في ” ولدها ” ولتّا و ” فوقها ” فوكّا . وهذه الظاهرة الصوتية موجودة ومسموعة أيضاً في لهجات شرق الجزيرة والبطانة ، ومنها قولهم؛ ” ا جنى ابوك الحمارة ما جابّا ، فرد عليه؛ كان جابّا ما بتسمع هنّاكا ؟ ” ، فاذا بها موجودة ايضا في لهجة الشايقية القديمة على الاقل كما يشهد بذلك قول حاج الماحي:
– جابولو البُراق بى طوكّا وسيد الرسلِ يركب فوكّا
– وكذلك قوله؛
– بسم الله بالخلق الخلق أوجتّا
– ما يتلى شي في الكون ذاتك وحتّا
– ويقابل قول حاج الماحي في هذه النماذج قول الشيخ عبد الرحيم البرعي الكردفاني في قصيدته ” الشوق للمدينة ومكة ” على سبيل المثال:
– دنياهو الدنيّة ملكّا
– وكذلك:
– أورادو الخفيفة تركّا الخ
–
في صفحتي ١١٩ و١٢٠ يشرح المؤلف كلمة ” كاب ” العامية السودانية التي ترد في عدد من قصايد حاج الماحي مثل قوله على سبيل المثال:
كابنا وكنزنا وعزة بهانا
مفتاح سرّنا ومرواد عمانا
يشرحها بقوله: ” الكاب من ألفاظ التراث يريدون به الملجأ والمكان الذي يغطيك من الأعداء كالجبل والغابة الخ “. وعندي أن الكاب هو الكهف ذاته ، حذفت هاؤه تيسيرا ، واشبعت فتحة كافه فاستحالت الفا. والكهف بالطبع يفيد معنى كلا الحمايتين الحسية والمعنوية على حد سواء ، من الناحية الدلالية. قال شوقي في قصيدته الرمزية ” برز الثعلب يوما “:
يا عباد الله توبوا فهو كهفُ التائبينا . الخ
من الالفاظ التي هي حالياً أشبه بعربية غرب السودان عموما التي وردت في شعر حاج الماحي ، واستشهد بها المؤلف في صفحة ١٣٦ بحسبانها شاهدا على ” سودانوية ” اسلوب حاج الماحي وبلاغته ، الصفة ” لفيف ” بمعنى الشخص الخفيف العقل وغير الرزين. وذلك في قوله:
ود العزتين المو لفيفا
من عبد الله لى آمنة العفيفة
قلتُ: الصفة لفيف توشك ان تكون حالياً من عربية غرب السودان حصراً ، ومنها المثل الدارفوري الناصح : ” سفر الخريف ، واكل التفاتيف ، وأخيدة بنت اللفيف ، ده كلو منو أقيف ! “. والغريب هو ان اهل وسط وشمال السودان يعرفون الخفة واللّفة وتجريان على السنتهم وخصوصا بين النساء ، وهما صفتان مذمومتان. وقد يستخدمون الصفة خفيف ، ولكنهم نادرا ما يستخدمون الصفة ” لفيف ” التي ذكرها حاج الماحي هاهنا ، ونزّه عنها الحبيب الممدوح صلى الله عليه وسلم.
وختاماً ، في معرض حديثه وتنويهه بالمعارف الجغرافية والاثنولوجية الجمة التي كان يتميز بها خارج الماحي ، وانعكست بصورة واضحة في أماديحه ، يبدو أن قول حاج الماحي مثلاً:
جلاّب الرجال من بَرقو
من بحر الغزالة يمرقو
قد أشكل على المؤلف نوعاً ما ، لأنه علق على ذلك قائلاً في صفحة ١٦٨: ” ولا يبعد مرورهم به. “. فكأن وهله قد ذهب إلى بحر الغزال التي بجنوب السودان ، فاستغرب ورودها في هذا السياق نظرا لقلة المسلمين هناك ، وغلبة الوثنية على اهلها في ذلك التاريخ. والواقع أن المقصود ببحر الغزالة في هذا السياق ، ذلك الاقليم المُسمّى ببحر الغزال الذي يقع في شمال غربي جمهورية تشاد الحالية ، وأهله جميعا مسلمون من قديم الزمان ، يتالفون من قبايل العرب ، والكانمبو ، والكوتكو ، والقرعان الكريدا وغيرهم ، وقد ظلت بلاد سودان وادي النيل ، هي معبرهم الاساسي في طريقهم نحو الاراضي المقدسة لاداء فريضة الحج ، ومن هاهنا جاءت معرفة حاج الماحي اهم و لبلادهم. ومما يعضد ذلك أيضاً ، ذكرها مقرونة مع بلاد برقو التي هي سلطنة وداي او دار صليح بشرق تشاد ايضا،
هذا ، ولعلنا نكتفي بهذا القدر من الابحار مع البروف ابراهيم القرشي في بحر حاج الماحي الخضم ، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
اضف تعليقا