الأصل اللغوي لكلمة مسدار:
لم يفطن أحد من الدارسين الذين أطلعنا على كتاباتهم إلى الأصل الصحيح للفعل الذي اشتق منه مصطلح (مُسْدار) اسماً على ذلك النوع المعروف من الشعر الشعبي في السودان. فقد توهم هؤلاء الباحثون أن حرف السين في كلمة مسدار من أصل الكلمة، فاستقر عندهم أن مسدار مشتقة من الفعل (سَدَر) وهذا غير صحيح.
يقول الأستاذان المبارك ابراهيم والدكتور عبد المجيد عابدين في كتابهما (الحاردلو شاعر البطانة) 1958: “ولفظ مسدار في اللهجة السودانية معناه الحكاية أو القصة، وهو من الفعل سدر، ولعله مقلوب من سرد العربية”. وواضح أنهما أبعدا النجعة بهذا التخريج.
ومع أن الدكتور (المصري) عز الدين اسماعيل يعترض على أن يكون سدر مقلوب سرد العربية، إلا أنه يغفل عن حقيقة أصل الفعل، ويذهب هو الآخر مذهبا خاطئا حينما يرد الفعل إلى التعبير العربي: “سدر في غيه، بمعنى سار موغلاً في طريق الغي”. – الشعر القومي في السودان، ص63
أما الدكتور عون الشريف قاسم، فينطلق مما انتهى إليه عز الدين اسماعيل فيبدأ بالقول: “سدر الرجل في البلاد ذهب فيها لا ينثني، لذلك يقولون في الفصحى سدر في غيه”. قاموس اللهجة العامية في السودان ص 529.
ويساير الدكتور سيد حامد حريز عون الشريف فيقول: “كلمة المسدار مشتقة من الفعل سدر بمعنى ذهب لا ينثني. وإذا قلنا سدر الرجل في البادية فالمقصود أنه ذهب فيها لا ينثني”. – فن المسدار، ص 13
وأما الطيب محمد الطيب فاكتفى في كتابه (دوباي) بتمييز المسدار عن غيره من فنون الشعر الشعبي ولم يشأ أن يخوض في أصل الفعل (سدر).
الحقيقة فات على الأستاذة الأجلاء، الذين تعلمنا منهم الكثير ونكن لهم عظيم الامتنان والتقدير، الانتباه إلى أن السين في الفعل (سدر) ليست أصلية، بل منقلبة أو بالأحرى مبدلة عن حرف الصاد وأن الفعل الصحيح هو (صَدَر) وليس سدر.
وصدر من الصدور ضد الورود. وأصل المعنى من ورود البهائم منهل الماء وصدورها عنه بعد أن ترتوي. يقول أهل البوادي والأرياف والقرى في السودان: البهائم وردن وسدرن أي صدرن. وناس فلان سدروا أي صدروا بعد ورودهم. (وهذا المعنى ليس خاصا ببادية البطانة وديار الشايقية، فقط، كما ورد عن عون الشريف وحريز).
وقد ورد هذا التعبير في القرآن الكريم في قوله تعالى: (حتى يَصْدُر الرعاء) والرعاء هم الرعاة جمع راعي. والمعنى حتى يسقي الرعاة ماشيتهم ويصدروا أي يغادروا البئر ويعودوا من حيث أتوا. جاء ذلك في سياق الإخبار عن قصة موسى وبنات شعيب. والنص القرآني كاملا هو: )ولمّا وردَ ماءَ مدينَ وجد عليه أمةً من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان، قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخٌ كبير)- القصص- الآية 23.
ويقول معجم لسان العرب: “الصَّدر بالتحريك: رجوع المسافر من مقصده والشاربة من الورد. الصدر نقيض الوِرد. يقال: صدرا يصدر صدوراً وصدراً. وطريق صادر، معناه أنه يصدر بأهله عن الماء. ووارد: يرِده بهم. وقوله تعالى: (يصدر الرعاء) أي يرجعوا من سقيهم. ومن قرأ يُصدِر، أراد يُرِدون مواشيهم. وقوله عز وجل: (يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً) أي يرجعون. يقال صدر القوم عن المكان، أي رجعوا عنه، وصدروا إلى المكان صاروا إليه: قال ذلك ابن عرفة. والوارِدُ: الجائِي، والصَّادِرُ: المنصرف”. انتهى.
إذاً الفعل الصحيح الذي اشتقت منه كلمة مسدار، هو صَدَر بالصاد من الصدر والصدور. فنحن نبدل في كلامنا الصاد سيناً. فنقول في صَدْر سَدُر. قال ود شوراني:
جنية الفارس الفوق النحـــاس فشّـــارْ
عملتْ جوفي خشباً في سَدُر مُنشارْ
….
خلى جَناني ماســك كل يــوم مسدارْ
كلمة “سدر” في قوله “في سَدُر منشار”. تعني صَدْر أي في صدر منشار، بمعنى في مقدمة أو أمام المنشار مباشرة أي في (وش) المنشار. يقول لسان العرب: “الصدر: مقدم كل شىء وأمامه”. وقول ود شوراني: “خلى جَناني ماسك كل مسدار” أي جعلت عقله مشتتا يهيم كل يوم في وادٍ أو درب. كما يجوز أن تشير مسدار هنا إلى المعنى الشعري للمسدار.
إذاً المِصدار لغةً الطريق أو الدرب الوراد والصادر عن الماء وتنطق في لساننا: مُسدار. وهو ما ذكره لسان العرب في الاقتباس أعلاه بقوله: “وطريق صادر معناه أنه يصدر بأهله عن الماء. ووارد: يرِده بهم”. وفي هذا المعنى قال عبد الله أبو سن في مسدار (ستيت):
عَناق الأريلْ المسدارها جبرهْ
تحـــدثني حـــديثاً كلــه عَــبــرهْ
وجبرة هنا جبرة الشيخ ببادية الكبابيش بشمال كردفان ويريد القول هذه الظبية العناق وردت البحر (النيل) من مرعاها في جبرة. و”عَناق” بفتح العين، وليس بالكسر كما جاء عند حامد حريز، وهي السخلة التي مر عليها الحول، جعلها صفة للظبية “الأريل”. والأصل أن يقال: سخلة عَناق.
والمسدار بمعنى الدرب الوارد والصادر عن الماء جاء أيضاً بقول الطيب ود ضحوية:
ما دام أم قجة واردة وصادرة بالمسدار
قوله “صادرة” هي في الأصل وفق النطق السوداني “سادرة” والمُسدار أصلها العربي “مِصدار”. أي الطريق الوارد والصادر عن الماء. وقد استعار أهل التجارة والاقتصاد والدواوين الحكومية هذا المعنى في قولهم: الصادر والوراد والصادرات والواردات.
هذا من حيث اللغة والاشتقاق اللغوي. وأما اصطلاحاً فالمسدار فن من شعر الدوبيت السوداني في شكل قصيدة كاملة. والمعروف أن الدوبيت السوداني يتكون من بيتين وأربعة أشطر (مربع أو رباعية). والكلمة فارسية مكونة من مقطعين: دو(اثنان) و(بيت). والدوبيت ظهر في العصر العباسي، هو (والمواليا أو المواويل، والكان كان، والقوما، والزجل) وكل هذه الأوزان الشعرية الشعبية المولدة، لا تدخل ضمن دوائر العروض الخليلي.
ومعلوم أن شعر الدوبيت السوداني كله مبني على وحدة البيتين معنىً ومبنىً. غير أنه ظهر في العهد التركي (1821-1885) نمط من شعر الدوبيت يتكون من أكثر من رباعية واحدة. واشتهر هذا الفن الشعري على يد شاعر البطانة الحردلو وأخيه عبد الله وسميت القصيدة الواحدة منه (مُسْدار).
ويرى كل من المبارك إبراهيم والدكتور عبد المجيد عابدين أن هنالك نمطين من المسدار: الأول يتألف من وصف استعراضي لبعض مشاهد الصيد حيث يتبع الشاعر حركة القطيع من الظباء على مدار السنة ومن ذلك مسدار (الصيد) للحردلو. والثاني يأخذ شكل المحاورة التي يتحقق فيها شيء من عناصر قصة أو واقعة بعينها، ومنه مسدار (المطيرق) للحردلو أيضاً.
ومن المسادير المشهورة الأخرى: مسدار (ستيت) لعبد الله أبوسن (شقيق الحردلو) ومسدار (النجوم) لعبد الله ود شوراني ومسدار (رفاعة) لأحمد عوض الكريم أبو سن. يقول الحردلو في الرباعية أو المربع الأول من مسدار (الصيد):
الشـــَّمْ خـــوختْ وبردنْ ليالي الحــِرّهْ
والبرَّاق برق من منّه جـــاب القِـــرّهْ
شوف عيني الصقير بجناحه كفت الفِرهْ
تلقاهـــا أم خـــدود الليلــةَ مـــرقتْ بــــرهْ
الأصل اللغوي لكلمة مسدار:
لم يفطن أحد من الدارسين الذين أطلعنا على كتاباتهم إلى الأصل الصحيح للفعل الذي اشتق منه مصطلح (مُسْدار) اسماً على ذلك النوع المعروف من الشعر الشعبي في السودان. فقد توهم هؤلاء الباحثون أن حرف السين في كلمة مسدار من أصل الكلمة، فاستقر عندهم أن مسدار مشتقة من الفعل (سَدَر) وهذا غير صحيح.
يقول الأستاذان المبارك ابراهيم والدكتور عبد المجيد عابدين في كتابهما (الحاردلو شاعر البطانة) 1958: “ولفظ مسدار في اللهجة السودانية معناه الحكاية أو القصة، وهو من الفعل سدر، ولعله مقلوب من سرد العربية”. وواضح أنهما أبعدا النجعة بهذا التخريج.
ومع أن الدكتور (المصري) عز الدين اسماعيل يعترض على أن يكون سدر مقلوب سرد العربية، إلا أنه يغفل عن حقيقة أصل الفعل، ويذهب هو الآخر مذهبا خاطئا حينما يرد الفعل إلى التعبير العربي: “سدر في غيه، بمعنى سار موغلاً في طريق الغي”. – الشعر القومي في السودان، ص63
أما الدكتور عون الشريف قاسم، فينطلق مما انتهى إليه عز الدين اسماعيل فيبدأ بالقول: “سدر الرجل في البلاد ذهب فيها لا ينثني، لذلك يقولون في الفصحى سدر في غيه”. قاموس اللهجة العامية في السودان ص 529.
ويساير الدكتور سيد حامد حريز عون الشريف فيقول: “كلمة المسدار مشتقة من الفعل سدر بمعنى ذهب لا ينثني. وإذا قلنا سدر الرجل في البادية فالمقصود أنه ذهب فيها لا ينثني”. – فن المسدار، ص 13
وأما الطيب محمد الطيب فاكتفى في كتابه (دوباي) بتمييز المسدار عن غيره من فنون الشعر الشعبي ولم يشأ أن يخوض في أصل الفعل (سدر).
الحقيقة فات على الأستاذة الأجلاء، الذين تعلمنا منهم الكثير ونكن لهم عظيم الامتنان والتقدير، الانتباه إلى أن السين في الفعل (سدر) ليست أصلية، بل منقلبة أو بالأحرى مبدلة عن حرف الصاد وأن الفعل الصحيح هو (صَدَر) وليس سدر.
وصدر من الصدور ضد الورود. وأصل المعنى من ورود البهائم منهل الماء وصدورها عنه بعد أن ترتوي. يقول أهل البوادي والأرياف والقرى في السودان: البهائم وردن وسدرن أي صدرن. وناس فلان سدروا أي صدروا بعد ورودهم. (وهذا المعنى ليس خاصا ببادية البطانة وديار الشايقية، فقط، كما ورد عن عون الشريف وحريز).
وقد ورد هذا التعبير في القرآن الكريم في قوله تعالى: (حتى يَصْدُر الرعاء) والرعاء هم الرعاة جمع راعي. والمعنى حتى يسقي الرعاة ماشيتهم ويصدروا أي يغادروا البئر ويعودوا من حيث أتوا. جاء ذلك في سياق الإخبار عن قصة موسى وبنات شعيب. والنص القرآني كاملا هو: )ولمّا وردَ ماءَ مدينَ وجد عليه أمةً من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان، قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخٌ كبير)- القصص- الآية 23.
ويقول معجم لسان العرب: “الصَّدر بالتحريك: رجوع المسافر من مقصده والشاربة من الورد. الصدر نقيض الوِرد. يقال: صدرا يصدر صدوراً وصدراً. وطريق صادر، معناه أنه يصدر بأهله عن الماء. ووارد: يرِده بهم. وقوله تعالى: (يصدر الرعاء) أي يرجعوا من سقيهم. ومن قرأ يُصدِر، أراد يُرِدون مواشيهم. وقوله عز وجل: (يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً) أي يرجعون. يقال صدر القوم عن المكان، أي رجعوا عنه، وصدروا إلى المكان صاروا إليه: قال ذلك ابن عرفة. والوارِدُ: الجائِي، والصَّادِرُ: المنصرف”. انتهى.
إذاً الفعل الصحيح الذي اشتقت منه كلمة مسدار، هو صَدَر بالصاد من الصدر والصدور. فنحن نبدل في كلامنا الصاد سيناً. فنقول في صَدْر سَدُر. قال ود شوراني:
جنية الفارس الفوق النحـــاس فشّـــارْ
عملتْ جوفي خشباً في سَدُر مُنشارْ
….
خلى جَناني ماســك كل يــوم مسدارْ
كلمة “سدر” في قوله “في سَدُر منشار”. تعني صَدْر أي في صدر منشار، بمعنى في مقدمة أو أمام المنشار مباشرة أي في (وش) المنشار. يقول لسان العرب: “الصدر: مقدم كل شىء وأمامه”. وقول ود شوراني: “خلى جَناني ماسك كل مسدار” أي جعلت عقله مشتتا يهيم كل يوم في وادٍ أو درب. كما يجوز أن تشير مسدار هنا إلى المعنى الشعري للمسدار.
إذاً المِصدار لغةً الطريق أو الدرب الوراد والصادر عن الماء وتنطق في لساننا: مُسدار. وهو ما ذكره لسان العرب في الاقتباس أعلاه بقوله: “وطريق صادر معناه أنه يصدر بأهله عن الماء. ووارد: يرِده بهم”. وفي هذا المعنى قال عبد الله أبو سن في مسدار (ستيت):
عَناق الأريلْ المسدارها جبرهْ
تحـــدثني حـــديثاً كلــه عَــبــرهْ
وجبرة هنا جبرة الشيخ ببادية الكبابيش بشمال كردفان ويريد القول هذه الظبية العناق وردت البحر (النيل) من مرعاها في جبرة. و”عَناق” بفتح العين، وليس بالكسر كما جاء عند حامد حريز، وهي السخلة التي مر عليها الحول، جعلها صفة للظبية “الأريل”. والأصل أن يقال: سخلة عَناق.
والمسدار بمعنى الدرب الوارد والصادر عن الماء جاء أيضاً بقول الطيب ود ضحوية:
ما دام أم قجة واردة وصادرة بالمسدار
قوله “صادرة” هي في الأصل وفق النطق السوداني “سادرة” والمُسدار أصلها العربي “مِصدار”. أي الطريق الوارد والصادر عن الماء. وقد استعار أهل التجارة والاقتصاد والدواوين الحكومية هذا المعنى في قولهم: الصادر والوراد والصادرات والواردات.
هذا من حيث اللغة والاشتقاق اللغوي. وأما اصطلاحاً فالمسدار فن من شعر الدوبيت السوداني في شكل قصيدة كاملة. والمعروف أن الدوبيت السوداني يتكون من بيتين وأربعة أشطر (مربع أو رباعية). والكلمة فارسية مكونة من مقطعين: دو(اثنان) و(بيت). والدوبيت ظهر في العصر العباسي، هو (والمواليا أو المواويل، والكان كان، والقوما، والزجل) وكل هذه الأوزان الشعرية الشعبية المولدة، لا تدخل ضمن دوائر العروض الخليلي.
ومعلوم أن شعر الدوبيت السوداني كله مبني على وحدة البيتين معنىً ومبنىً. غير أنه ظهر في العهد التركي (1821-1885) نمط من شعر الدوبيت يتكون من أكثر من رباعية واحدة. واشتهر هذا الفن الشعري على يد شاعر البطانة الحردلو وأخيه عبد الله وسميت القصيدة الواحدة منه (مُسْدار).
ويرى كل من المبارك إبراهيم والدكتور عبد المجيد عابدين أن هنالك نمطين من المسدار: الأول يتألف من وصف استعراضي لبعض مشاهد الصيد حيث يتبع الشاعر حركة القطيع من الظباء على مدار السنة ومن ذلك مسدار (الصيد) للحردلو. والثاني يأخذ شكل المحاورة التي يتحقق فيها شيء من عناصر قصة أو واقعة بعينها، ومنه مسدار (المطيرق) للحردلو أيضاً.
ومن المسادير المشهورة الأخرى: مسدار (ستيت) لعبد الله أبوسن (شقيق الحردلو) ومسدار (النجوم) لعبد الله ود شوراني ومسدار (رفاعة) لأحمد عوض الكريم أبو سن. يقول الحردلو في الرباعية أو المربع الأول من مسدار (الصيد):
الشـــَّمْ خـــوختْ وبردنْ ليالي الحــِرّهْ
والبرَّاق برق من منّه جـــاب القِـــرّهْ
شوف عيني الصقير بجناحه كفت الفِرهْ
تلقاهـــا أم خـــدود الليلــةَ مـــرقتْ بــــرهْ
abusara21@gmail.com
http://www.sudanile.com/123828